
في خضم زحام الملفات الإقليمية والدولية وتراقص المصالح الكبرى، تتأكد مكانة مصر كعامل استقرار محوري بفضل منهجية واقعية مدروسة وموازنة دقيقة بين أبعاد القوة والنفوذ. فمن غزة التي أعادت إنتاج معادلات الصراع العام 2023، إلى أوكرانيا منذ 2014، مرورًا بمفاوضات الاتفاق النووي الإيراني بعد انسحاب واشنطن من فيينا 2018، راكمت القاهرة خبرة فريدة في استثمار أدوات الدبلوماسية الوقائية والبراغماتية السياسية لصياغة وضعها الإقليمي بمرونة لا تنحصر قدراتها في المقاومة فحسب، بل تمتد إلى إرساء أطر تعاون متعددة الأطراف تبني على أسس علمية هيدرولوجية وأمنية واقتصادية.
رفضت مصر منذ البداية أيّ محاولات للتوطين القسري للفلسطينيين في سيناء أو تقديمها بديلًا عن غزة، بما يُخالف مبادئ القانون الدولي الإنساني وقرارات مجلس الأمن، وفشلت بذلك سيناريوات تحويل القطاع إلى “ريفيرا” استثمارية تخدم أجندات خارجية. وعلى نحو مواز، كذلك حسمت القاهرة موقفها في السودان حين دعت إلى دعم الجيش الوطني وليس العشائر الممولة خارجيًا، لاسيما ما نرى اليوم في الأراضي الليبية فالحديث شرقاً دائماً عن الإعمار والتنمية والاستقرار بفضل دعم مصري خالص وصادق للجيش الوطني الليبي وتحقيق مصالح ليبية والاستفادة من الموارد الليبية والحفاظ عليها لأهل البلد، عكس الخراب والدمار والتفتت في الغرب الليبي، كما أظهرت القاهرة التزامًا دقيقًا بمبادئ الحوكمة المائية حين رفضت أي حل عسكري لمسألة سد النهضة الإثيوبي، ناقلة النقاش إلى ساحات علمية إيكولوجية استندت فيها إلى برتوكول واشنطن 1995 وقواعد المعادلات الهيدرولوجية التي تضمن الحفاظ على نصيب كل دولة من مياه النيل دون المساس بالجيولوجيا الإثيوبية أو تهديد الأمن المائي السوداني والمصري.
في ملف الطاقة، أطلقت مصر منتدى غاز شرق المتوسط عام 2019 بالتعاون مع قبرص واليونان، ليؤسس نموذجًا تشاركيًا للموارد الإقليمية يحول دون احتكار أي طرف لمصادر الهيدروكربون، وينسج شراكات متوازنة مع القوى الأوروبية، وهو ما دفع فرنسا وإسبانيا وإيطاليا للانضمام إلى هذا الإطار التعاوني. وإذ ترتبط القاهرة بتحالفات دفاعية واقتصادية متينة، حافظت في الوقت نفسه على استقلالية قرارها الوطني عبر قاعدة عسكرية وطنية قوية واقتصاد يقوم على مشاريع بنية تحتية كبرى، من تنمية محور قناة السويس إلى مجمع الشركات الصناعية الحديثة، بما يعزز مفهوم “الأمن الشامل” القائم على التكامل بين الأدوات العسكرية والاقتصادية.
عالميًا، تؤكد التطورات الأخيرة أن واشنطن، بعد إخفاقها في ساحة أوكرانيا وتراجع جدوى الخيار العسكري ضد البرنامج النووي الإيراني، اختارت العودة إلى طاولة مفاوضات فيينا 2021–2024 بدلاً من الهجوم المحدود، لأسباب استخباراتية وعسكرية رصينة تفيد بعدم قدرة الضربات الجوية على تحييد قدرات التخصيب الإيراني بالكامل دون ردٍّ قاسٍ يهدد أمن الخليج ومصالح أمريكا، كما أثبتت أزمة الحوثيين أن استخدام القوة دون خطة شاملة يؤدي إلى كسور استراتيجية في أقسى نقاط الضعف. وفي المقابل، شهدت التنسيقيات مع تل أبيب توترًا بظهور قنوات تفاوض مباشرة مع طهران دون مشاورات مسبقة مع حكومة نتنياهو، وهو ما أثار مخاوف إسرائيلية من فقدان أسبقية النفوذ وضرورة بناء تحالفات عربية سورية متجددة بعيدًا عن الانكفاء الأحادي.
على صعيد العلاقة الأمريكية–الإسرائيلية، فقد اهتزت بفعل خلافات بين ترامب ونتنياهو وصلت إلى إعلان إدارة ترامب عن حوار مباشر مع طهران دون التنسيق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، في خطوة تُعيد ضبط توازنات القوى في المنطقة لصالح مصالح واشنطن أولاً. وفي ملف الأسرى، كُشف عن لقاءات غير مباشرة بين مبعوثين أمريكيين وقيادات حماس أدّت إلى الإفراج عن الرهينة “عيدان ألكسندر”، رغم تحفظات إسرائيلية معتبرة على هذه الخطوة، وهي خلافات مرحلية وليست استراتيجية فالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية أكبر من نتنياهو وترامب، كما أن الاستراتيجية الأمريكية لدى إدارة ترامب تسعى إلى دمج إسرائيل في محيطها، وتنال الريادة والأسبقية.
أما دول الخليج، وإن ضخت مئات المليارات في صفقات منظومات صاروخية وطائرات مقاتلة تحت مسمى “تكلفة الأمن”، مصالح دول الخليج في شراء الأمن عبر تعاقدات عسكرية ضخمة (صفقات طائرات وأسلحة بقيمة مئات المليارات) لا تُخفى على ذي بصر، وهي فعلياً جزء من “تكلفة الأمن” لمن لا يملك جيشًا قادرًا على ردع التهديدات. لكن هذه القوة الاقتصادية وحدها لا تصنع توازنًا حقيقيًا دون مشروع إقليمي متكامل ودعم عسكري فعّال. وقد كان لافتًا رفض القاهرة الضمني لمطلب العبور المجاني للسفن الأمريكية عبر قناة السويس، لتؤكد أن معايير الأمن الدولي تُقاس بمعايير السيادة والمصلحة الوطنية لا بالتسويات المالية البحتة.
يُعدّ “تكلفة الأمن” (Security for Hire) نموذجاً اتبعه بعض دول الخليج بشراء منظومات باتريوت وF 35 بمئات المليارات، مقابل “ثمن” حماية الثروات. حيث تميّزت القاهرة بـالنموذج الهجين (Hybrid Model) الذي يجمع بين قاعدة عسكرية وطنية صلبة واقتصاد نامٍ قائم على المبادرات العمرانية الكبرى (Mega Infrastructure Projects) مثل محور تنمية قناة السويس.
تُشكّل مصر اليوم نموذجًا فريدًا في إدارة “الأمن الإقليمي” بعيدًا عن الاستقطاب الأيديولوجي؛ فهي الدولة التي جمدت تعيين سفير في تل أبيب اعتراضًا على الحرب على غزة، واستضافت قمة عربية طارئة لمواجهة مخططات صهيونية، ورفضت إملاءات اقتصادية أميركية تتعلق بعبور السفن عبر قناة السويس مجانًا. كما أطرت علاقاتها الدولية بمنطق “الوازنات المتعددة”: توازن بين الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي ودول الجنوب.
كل هذه المعطيات تجعل من مصر اليوم نموذجًا فريدًا في إدارة الموازنة الاستراتيجية، يركن إلى توازن القوى المتعددة (Multi polar Equilibrium) ويعتمد على مدخلات عقلانية تستمد قوتها من التشابك البنيوي بين الأبعاد الدبلوماسية والقانونية والعسكرية والاقتصادية. وبينما تلوح أمام واشنطن وإسرائيل وأطراف أخرى تحديات مستجدة في المنطقة، تبقى القاهرة قادرة على رسم معالم النظام الإقليمي القادم عبر تعزيز قدراتها الداخلية، وتوظيف العلاقات الخارجية لإعادة ترتيب الأوراق بدقة علمية مدققة، بعيدًا عن الهيمنة الأحادية والأيديولوجيات الطفولية. فليس مستقبل المنطقة ممكنًا إلا بإرساء جغرافيا مصممة بمنطق الدولة القوية، التي تملك أدوات الاستشراف والردع معًا، قادرة على نقل تناقضات القوى إلى ساحات تفاوضية تضمن حفظ الأمن القومي والازدهار المشترك.
في خضم هذه المشهد المعقد، بات لزامًا على كل مصري أن يُعلي المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى. فقد أثبتت التجارب أن “الأوراق” ليست حكراً على أي قوة واحدة، وأن التحالفات الجديدة وإعادة توزيع الأدوار هي التي تحدد معالم النظام العالمي القادم، لكن لمصر موقفها الثابت، قادرة على رسم المتغيرات الكبرى الفعلية في الشرق الأوسط .