قانون تنظيم الفتوى.. إيجابيات واضحة وتخوفات مشروعة

قانون تنظيم الفتوى.. إيجابيات واضحة وتخوفات مشروعة
مظهر شاهين

في إطار ما تبذله الدولة المصرية من جهود رصينة ومتواصلة للنهوض بالشأن الديني وتعزيز الثقة في مؤسساته، صدر مؤخرًا القانون المنظِّم للفتوى، ليضع إطارًا قانونيًّا واضحًا يضبط عملية الإفتاء وينظّم آلياته، بما يضمن استقرار المجتمع، ويصون قدسية الدين من التوظيف المغلوط والاجتهاد غير المنضبط.

ويمثل صدور قانون تنظيم الفتوى خطوة مهمة نحو ترسيخ المرجعية الدينية الرسمية، وتنظيم المجال الفقهي في مصر على أسس مؤسسية واضحة، بعد سنوات شهدت فوضى في الإفتاء، واختلاطًا بين المؤهل وغير المؤهل، وظهور فتاوى مثيرة للجدل من غير المتخصصين أحيانًا، ومن بعض المتخصصين أحيانًا أخرى، ألحقت أضرارًا بالغة بصورة الخطاب الديني، وأربكت الرأي العام، وأسهمت أحيانًا في توظيف الدين لأغراض لا تمت للشرع بصلة.

وقد جاء القانون ليضع حدًا لهذه العشوائية، ويؤكد أن الفتوى مسؤولية كبرى لا يتصدر لها إلا من اجتمعت فيه الأهلية العلمية والانضباط المنهجي، فتُبنى الفتوى على ركيزة العلم، وتحت إشراف المؤسسات الدينية المعتمدة، وبما يحفظ للدين هيبته، وللمجتمع استقراره، وللوطن وحدته الفكرية والدينية. ومن أبرز ما تضمنه القانون قصر الفتوى العامة على ثلاث جهات هي: هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومجمع البحوث الإسلامية، ودار الإفتاء المصرية، وهي مؤسسات تمتلك من العمق العلمي والخبرة التراكمية ما يجعلها قادرة على التصدي للنوازل والمستجدات بمسؤولية واجتهاد جماعي مؤسسي.

ومن الإيجابيات الجوهرية التي لا بد من التنويه بها أن القانون أرسى مبدأ توحيد المرجعية في الفتوى العامة، بقصرها على هذه الجهات الثلاث، وهو ما يُعد إجراءً مهمًا لضمان استقرار الخطاب الديني العام، وحماية المجتمع من تضارب الفتاوى في القضايا الكبرى التي قد تؤثر على السلم المجتمعي أو الأمن القومي، خاصة في أزمنة النوازل والأزمات العامة. فصدور الفتوى العامة عن مرجعية موحّدة يضمن الانضباط، ويغلق الباب أمام التوظيف السياسي أو الإعلامي للدين، ويحفظ على الناس دينهم، وعلى الوطن سلامته.

كما نظم القانون الفتوى الخاصة، وأضاف مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية ضمن الجهات المختصة بها، وسمح بتشكيل لجان من المتخصصين تحت إشراف هيئة كبار العلماء، شرط اجتياز دورات تأهيلية معتمدة، والحصول على تصريح يحدد مدته ويُجدد وفق التقييم. وهي آلية تعكس وعيًا مؤسسيًا بأهمية التأهيل المستمر، والتقويم الدوري لضمان جودة الأداء، وربط الإجازة بواقع المفتي وتحديث أدواته العلمية.

ورغم ما سبق من إيجابيات تستحق التقدير، فإن القانون في صيغته الحالية أثار عددًا من التخوفات المهنية المشروعة، التي لا تمس جوهره، لكنها تدعو إلى التأمل في تفاصيل التطبيق، وخصوصًا في ما يتعلق بتنظيم الفتوى الخاصة.

فبينما نؤيد ما نص عليه القانون من قصر الفتوى العامة على الجهات الثلاث المعتمدة، حفاظًا على وحدة المرجعية وضبط الخطاب الديني العام، فإننا نتحفّظ على ما قد يُفهم من تضييق على التعددية الفقهية في الفتوى الفردية، خاصة حين يُشترط لتلك الفتوى تصريح إداري مؤقت، قد يُمنح على أسس وظيفية أو تنظيمية، ويُحجب عن أكفاء مؤهلين رسّخهم العلم والخبرة. وهو ما يُثير القلق من أن يتحول تنظيم الفتوى الخاصة إلى حصر غير معلن، يحدّ من اجتهاد العلماء ويُقيّد المساحات الرحبة التي عُرفت بها المدرسة الأزهرية.

وإذا كنا نتخوف من أن يؤدي ذلك إلى تراجع التعددية في الفتوى الخاصة، فإننا نذكّر بأن المنهج الأزهري العريق، الذي نشأنا عليه، قام على الفقه المقارن، والاختلاف المعتبر، والانفتاح على المذاهب، لا الحصر على رأي أو مذهب واحد. وقد درّس الأزهر الفقه على المذاهب الأربعة، ورأى في التعددية رحمة وسعة، لا تناقضًا ولا اضطرابًا. وهو ما جعل الأزهر قبلة العلم، ومصدر الثقة، وموئل الاعتدال عبر قرون.

لقد بنى الأزهر الشريف مكانته الراسخة لأكثر من ألف عام على تبنّيه للتعددية الفقهية، وتدريسه للفقه المقارن، وانفتاحه على المذاهب الأربعة، حتى أصبحت هذه التعددية سمة مميزة لمنهجه، وعاملًا من عوامل بقائه وتأثيره وصموده في مواجهة تحديات كثيرة عبر الزمان. وقد علّمنا أن الخلاف المعتبر لا يُفسد للود قضية، وأن الاجتهاد في الدين سعة، لا ضيق، ورحابة لا انغلاق. وكان الأزهر الشريف – ولا يزال – هو الحارس الأمين لهذا النهج، والمعلّم الأول لأصوله، فقد درسنا فيه الفقه المقارن، وفقه المآلات، وفقه الواقع، وفقه النوازل، وأصول الاجتهاد، والقياس، ومناهج الاستنباط، على أيدي علماء راسخين غرسوا فينا أن التعددية ليست تهديدًا لوحدة الأمة والمجتمع، بل هي ضمانة لبيان سماحة الإسلام، وإبراز وسطيته، وطريقة للتيسير علي الناس وفهم  الدين فهمًا صحيحًا، متجددًا، متوازنًا، في مختلف البيئات والأزمنة ومن هنا أخشي ألا يراعي القانون عند التطبيق هذه الأبعاد الهامة الناتجة عن التعددية الفقهية .

ومن القضايا التي تحتاج إلى معالجة ما أُثير بشأن اشتراط التصريح لمزاولة الفتوى الخاصة، بما قد يَحول دون مشاركة عدد من أساتذة الفقه والشريعة بجامعة الأزهر في هذا المجال، رغم أنهم أهل علم وتأهيل، ويُدرّسون أصول الفتوى والاجتهاد، في الوقت الذي يُصرّح فيه أحيانًا لبعض من تخرجوا على أيديهم. وهو أمر يستدعي مراجعة دقيقة من الجهات المختصة، لأن تجاهل الكفاءات العلمية الراسخة قد يُفقد القانون جزءًا من رصيده المهني، ويبعث برسائل غير منسجمة مع مبدأ التقدير للكفاءة.

ومن التخوفات التي تفرض نفسها كذلك ما يتعلق بصلاحية الإمام والخطيب للإفتاء في المساجد، وهو الأزهري المؤهل، الحاضر يوميًّا بين الناس، والمُجيب عن أسئلتهم في شؤون الصلاة والطهارة والزكاة والصيام، والتي هي من صميم اختصاصه وتكوينه العلمي والوظيفي. فهل من المنطقي أن يُحرم الإمام من هذا الدور بحجة غياب التصريح؟ وهل يُعقل أن يُمنع من أداء واجبه في إرشاد الناس، أو يُهدَّد بالمحاسبة أو العقوبة لمجرد أنه أجاب عن مسألة في الطهارة أو الصيام أو الميراث؟ إننا هنا لا نتحدث عن فتاوى النوازل العامة، بل عن مسائل يومية فردية، لا يُمكن بحال منع الإمام من التفاعل معها، فهي جزء من مهمته، ومجال مباشر من ميادين خدمته للدين والمجتمع. ومن ثم، فإننا نأمل أن تراعي اللائحة التنفيذية هذا الأمر، وألا تتحول الضوابط إلى قيود، ولا التنظيم إلى تضييق غير مبرر.

ومن المهم التأكيد على أن تنظيم الفتوى لا ينبغي أن يُفهم على أنه تقييد لأهلها، بل هو وسيلة لضمان صدورها عن أهل الاختصاص. فحماية المجتمع من الفتاوى غير المنضبطة لا تتحقق بمنع الاجتهاد، وإنما بتمكين المؤهلين علميًا، وتوسيع دائرة الفقه المقارن، وتيسير الإفتاء في القضايا الفردية لمن توفرت فيه شروط الأهلية الشرعية والعلمية. فالمقصد الأسمى هو ضبط الأداء لا تعطيله، والتمييز بين من تلقّى العلم على أصوله الشرعية، وبين من لم يكتمل تأهله العلمي بعد. ومن خلال إتاحة المجال لأهل الكفاءة، نُسهم في ترشيد الخطاب الديني، والحفاظ على مرجعيته الرصينة.

كما أن منح التصريح للسادة الأئمة العاملين في الأوقاف وأساتذة الأزهر الشرعيين لا يعني إطلاق العنان بلا ضوابط، بل لا بد أن يُقرَن برقابة رشيدة ومتابعة مسؤولة، تضمن أن تُمارس الفتوى بما يخدم مصلحة الدين والوطن والمجتمع. وفي حال استُغل التصريح لنشر فتاوى شاذة، أو إثارة البلبلة، أو تعريض السلم المجتمعي للخطر، فإن هناك مسارات قانونية ينبغي تفعيلها، تبدأ من المساءلة المؤسسية، وقد تصل – إن لزم الأمر – إلى القضاء، حفاظًا على هيبة الدين، وأمن الوطن، ووحدة المجتمع.

إننا نؤيد هذا القانون ونرحب بمقاصده، لكننا نأمل أن تأتي لائحته التنفيذية منصفة، متوازنة، تُعيد الاعتبار للأزهريين المؤهلين، وتضع معايير واضحة للتمييز بين المجتهد والمؤهل، وبين غير المختص، دون حجر ولا إقصاء، ودون مساواة بين من لا يستويان علمًا وخبرة ودرسًا وممارسة.

ولا يفوتنا أن نُعرب عن خالص الشكر والتقدير للقيادة السياسية الرشيدة على دعمها المتواصل للمؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف،، كما نتوجه بالتحية لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، ومعالي الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، وفضيلة مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد علي جهودهم لإخراج هذا القانون، كما نثمِّن الدور الكبير لمجلس النواب الموقر، ولجنة الشؤون الدينية، في إعداد القانون، متطلعين إلى أن يُستكمل بآليات تنفيذية تحقق العدالة، وتحفظ المكانة، وتُحسن البناء.

وفي النهاية، فإننا نؤمن أن التوفيق بين التنظيم وحفظ الكفاءات، وبين ضبط الفتوى وتمكين المؤهلين، هو الطريق إلى خطاب ديني راشد، يحفظ للأزهر مكانته، وللدعوة طهارتها، وللوطن استقراره الفكري والديني.

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل

عاجل